الصفحات

الأحد، 27 ديسمبر 2015

قصة فتح مدينة القدس في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه

لحظة تاريخية، جليلة، ذهبية تلك التي تسلم بها، أمير المؤمنين، خليفة المسلمين، عمر بن الخطاب رضي الله عنه، مفاتيح بيت المقدس.


هذه هي جيوش المسلمين، تقتحم معاقل الفرس والروم وتدكها، ولم يبقى غير القدس هدفاً، لكن نصارى القدس، لم يحبذوا فكرة دخول المسلمين إلى الأرض المقدسة بسيوفهم، وتسيل الدماء هناك، فأرسلوا للخليفة العادل، يطلبون منه المجيء لديارهم، ليسلموها له، ويسلموه مفاتيحها.


وصل رجاءهم لخليفة المسلمين عمر رضي الله عنه، فلم يخيب رجاءهم، وكان بإمكانه، وهو قائد المسلمين أن يرفض، ويدخلها عبر السيف والدماء، ويأمر باقتحامها، كما فتحت أكثر المدن في عصره، لكنه لم يفعل، وهنا تبدأ حكاية ذلك الفتح التاريخي، والذي كلما قرأته في كتب التاريخ مرة بعد مرة، انتابني ذلك الشعور بالبكاء، والعزة والفخر، بالبكاء على حال قدسنا اليوم، وعزتي بغبار إسلامي، فكيف فتح الخليفة العادل القدس؟.


لم يمشي عمر بن الخطاب للقدس بخيل قوية مطهمة، ولا بجيوش جرارة، ولا بعظمة وأبهة غير عظمة الإيمان في قلبه، مشى إليها بناقة وخادم معه، وزاد هو عبارة عن كفايته الطريق من الماء والخبز والتمر.


ومشى إليها يقطع الفيافي، في رحلة تاريخية، من المدينة للقدس، يقطع وخادمه الصحراء، وحيدين، أعزلين، يتلوان سورة يس، كان عمر رضي الله عنه يركب ناقته ساعة، ويمشي خادمه، ثم ينزل ليركب خادمه ساعة أخرى، ويمشي هو، ثم يمشي الاثنان ليريحا الناقة، حتى الناقة كانت في حساب الاستراحة،مسافة 2400كيلومتر، في رحلة شاقة، يرافقهما لهيب الصحراء، يمشيان، ويركبان، حتى وصلا قريباً من الجيش المحاصر للقدس بقيادة أبو عبيدة الجراح، وبينهما منخفض ملئ بالماء والطين، وكان الخادم راكباً، وعمر ماشياً بيده مقود الناقة، لم يأمر عمر خادمه أن يتنحى ليركب الناقة ويجتاز الوحل أمامه، وكان الخادم يريد أن ينزل ليمشى ويركب أمير المؤمنين إلا أن الخليفة العادل أبى ذلك كله، وبعظمة العدل والرحمة والتواضع، خلع أمير المؤمنين نعليه، قائد جيوش الفتوحات الإسلامية الكبيرة، هازمة الروم والفرس، خلعهما ووضعهما على عاتقه، شمّر ثيابه إلى ما فوق ركبتيه وخاض الوحل، حتى يجتاز المنخفض من جهة قواد جيوش المسلمين!!!!، فتمرغت ساقاه بالوحل، وعندما علمت جيوش المسلمين بمقدم أمير المؤمنين، هب قائدها أبو عبيدة مع قواده الأربعة ليستقبلوه استقبالا يليق بمقام خليفة المسلمين، حين شاهد أبو عبيدة ما ناب ساقي أمير المؤمنين من الوحل قال له عن طيب نية، والحرص على أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه:" يا أمير المؤمنين لو أمرت بركوب، فإنهم ينظرون إلينا".


غضب عمر بعد مقولة أبي عبيدة هذه غضبته التاريخية الشهيرة، وصاح بوجه هذا القائد الذي هزم الدولة البيزنطية، وأحد العشرة المبشرين بالجنة، صاح به قائلا مقولته التاريخية الشهيرة:" والله لو غيرك قالها يا أبا عبيدة لجعلته عبرة لآل محمد صلى الله عليه وسلم!!! لقد كنا أذلة فأعزنا الله بالإسلام، فإذا ابتغينا عزاً بغير الإسلام أذلنا الله".


الله! الله! ما أعظمه من درس تاريخي يا عمر، تخبأه لجند فلسطين اليوم، تحثهم على استمرارهم في مسيرة تحرير القدس من اليهود الغاصبين، المحتلين، بالإسلام فقط سنحرر فلسطين، وبهجره نخسرها ونخسر القدس أجمعين، ونخسر مكانتنا وقيمتنا بين الأمم والشعوب.


لم يمكث عمر الوقت الطويل عند أبي عبيدة، فهو لم يأتي للسياحة والتنزه والاستراحة، فالوقت غال وثمين، وفتح القدس قاب قوسين وأدنى، بل واصل الركب المسير باتجاه القدس، إذ هي قريبة من مركز القيادة، وكان عمر رضي الله عنه راكباً، وخادمه ماشياً، يقرآن سورة يس، وانتهت المدة التي يستريح بها أمير المؤمنين فوق الناقة، ويجب أن يستريح خادمه، ياااااااااه لعدلك يا عمر ورحمتك ورأفتك!!!!! وكم نفتقد لأمثال ذلك بيننا في أيامنا هذه، فنزل عمر عن الناقة ليمشي، وركب خادمه، وأخذ عمر بزمام الناقة، ورجلاه لا تزالا ممرغتين بالوحل.


وصل الركب الفاتح، المثل الأعلى للحضارة، والقيم الرفيعة العظيمة والنبل السامية ممثلةً بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، إلى باب دمشق، أحد أسوار القدس، والخليفة يمشي يقود الناقة، وخادمه راكب، وحشود الروم من عسكريين ومدنيين متجمهرين عند الأسوار، يتفرجون مذهولين مصعوقين غير مصدقين، لأغرب مشهد تاريخي حضاري لا يحلمون برؤيته، ولا حتى نحن جيل القرن الواحد والعشرين، وقد كان هناك فنانون ورسامون فرسم أحدهم صورة له تحدث عنها بعض الكتب العربية فجاء فيها : " كتاب يوناني مخطوط في دير المصابة، يذكر حادثة مجيء الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يتسلم بيت المقدس، ومع النص رسم يمثل أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه حين دخوله القدس، وقد رسموه في ثياب أهل الجزيرة العربية، ملتحياً داخلاً من باب دمشق، باب العمود، ذا مهابة ووقار، ماشياً على قدميه في تواضع المخلصين الأبرار، آخذاً مقود الراحلة بيسراه، وإلى أعلى الرسم غلام أجرد أسود، مستقراً فوق رحلها، رافعاً في وجه القوم عصاه، مستنكراً سجودهم لمولاه_يعني عمر بن الخطاب_، صائحاً فيهم: ويحكم! ارفعوا رؤوسكم، فانه لا ينبغي السجود إلا لله."
حتى إذا استقر الركب عند الباب، نزل إليه رئيس الأساقفة " صفر يانوس"، البطريرك، وبيده مفاتيح القدس، وبعد أن سلّم عليه، قال له: إن صفات من يتسلم مفاتيح إيلياء (بيت المقدس) ثلاثة، وهي مكتوبة في كتابنا - يقصد شروح الإنجيل- :

أولها: يأتي ماشياً وخادمه راكب.

ثانيها: يأتي ورجلاه ممرغتان في الوحل.

وثالثها: لو سمحت أن أعدّ الرقع التي في ثوبك.

فعدّها، فإذا هي سبع عشرة رقعة! فقال: وهذه هي الصفة الثالثة، يا سلام، لا تسلم مفاتيح القدس إلا لقائد أمير يمتلك أوسمة ثلاثاً هي من أرفع أوسمة التاريخ وأشرفها وأعلاها وأغلاها قيمة، ركب الخادم، الوحل، والرقع على الثوب، وهل هناك بعد من أوسمة أخرى أعلى من هذه الأوسمة لتفتح بها القدس مسرى رسولنا الكريم، وهل أعلى من هذا الشرف ليسلم البطريرك المفاتيح، نعم هذه هي أوسمة الإسلام الذهبية، حين تأكد البطريرك من ثبوت العلامات الثلاث سلّم أمير المؤمنين مفاتيح القدس، واتجه إلى زاوية يبكي، فأتاه عمر رضي الله عنه يسليه ويعزّيه، بسماحة القائد المنتصر، بدلا من اهانته وتحقيره والاستعلاء عليه والتعاظم والتفاخر، كما يحصل في أيامنا هذه، بل تقدم عمر العادل من البطريك"صفر" وقال له برحمة المسلمين "إن الدنيا دول وأنشد: فيوم علينا ويوم لنا ويوماً نُساءُ ويوماً نُسرّ"

فأجابه بطريرك القدس:" ما حزنت لأنكم دخلتم دخول الفاتحين الغزاة، لتكون الدنيا دول بيننا، ونستردها يوماً ما، ولكنكم ملكتموها إلى الأبد بعقيدة الإسلام وحكم الإسلام، وأخلاق الإسلام".

وضاع منا اليوم الإسلام فخسرناها خسران الفاشلين الجبناء الصامتين.


وبعد أن تسلم الفاروق مفاتيح بيت المقدس، وقّع مع أهلها النصارى" الوثيقة العمرية" والتي سأنقل لكم بعضاً من نصها حيث للأسف تعرض جزء منها ،والتي احتفظ بنسخة مصورة منها، لبعض التلف وقد وضعت النقاط في الأماكن التي تعرضت للتلف ولم أستطع قراءة مضمونها:
" بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان. أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم. ولكنائسهم .... وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم. ولا ينتقص منها ولا من حيزها. ولا من صلبهم، ولا شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم،*ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود.

وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما يعطى أهل المدائن. وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوص. فمن خرج... فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم. ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية....

...أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم، فإنهم آمنون على أنفسهم حتى يبلغوا... ومن كان بها من أهل الأرض فمن شاء منهم قعد، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية، ومن شاء سار.... ومن شاء رجع إلى أهله، لا يؤخذ منهم شيء حتى يحصد حصادهم. وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله ... رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية"

شهد على الوثيقة: خالد بن الوليد ،عمرو بن العاص. كتب وحضر سنة 15هـ عبد الرحمن بن عوف، معاوية بن أبي سفيان، عمر بن الخطاب


وقد نصت الوثيقة على أن يعامل فيها أهل إيلياء بالمساواة، بالحقوق والواجبات، من دون تمايز الفاتحين على المغلوبين ومن دون تفضيل المسلمين على النصارى في المعاملات، وسجل في الوثيقة أن لأهل إيلياء ما للمسلمين، وعليهم ما على المسلمين، كما اشترط أهل إيلياء النصارى على خليفة المسلمين عمر رضي الله عنه أن لا يسمح ليهودي أن يسكنها معهم كما هو مبين في نص الوثيقة أعلاه*" ولا يسكن بايلياء معهم أحد من اليهود". فوافق على ذلك، لعلمه بما كان هناك من أحقاد وضغينة ومجازر فظيعة قام بها اليهود، وبما يكيد اليهود دائما من الدسائس وفوضى، فأمر عمر بإخراجهم منها.


ثم دخل الفاروق القدس، ودخل كنيسة القيامة، وتروي بعض كتب التاريخ أنه رأى بعض آثار هيكل سليمان وما تبقى منها وعليه التراب، فانحنى إليه يمسحه بطرف ثوبه، فأقبل من ورائه الجند يزيحون عنه الغبار، حتى تلألأ ، ورمم عمر من الهيكل ما استطاع، وبنى فيه الجامع المنسوب إليه جامع عمر، ويعلق المؤرخون على ذلك: أن لو كان للهيكل لسان لقال: هذه حرية الإسلام، وعدالة الإسلام، والهياكل محرّمة في الإسلام، وهيكل اليهود لا يقرّه الإسلام ولا يعترف بقدسيته، ولكنه احترام لمشاعر أهل الكتاب، وترك الحرية التامة لهم بممارسة شؤونهم الدينية من غير تدخل في شؤونهم، ولو كانت طقوسهم مغايرة أو مضادة لعقيدة المسلمين.


ثم جاء وقت الصلاة، وهو في كنيسة القيامة، فأعلن لمن معه أن الكنيسة مكان عبادة الله، ومسموح له أن يصلي فيها، ولكن يخاف أن يأتي يوم يقول فيه المسلمون : أن عمر الفاروق صلى هنا، فيقتطعون من الكنيسة مسجداً لهم، فخرج وصلّى على بعد 500متر منها، حيث أشيد مكان صلاته مسجد سمّي بمسجد عمر، وهو يبعد كذلك بنفس المسافة عن الأقصى الذي كان منه معراج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى السماء.


ولعمري هذا هو ما كنت أتكلم عنه وما نعنيه اليوم من سماحة الإسلام تجاه أهل الكتاب، واحترام مشاعرهم وشعائرهم وتقاليدهم.


بعد كل نصر تاريخي، يكون هناك احتفال تاريخي، لكن احتفال عمر والمسلمين بفتح القدس كان احتفالاً نوعي متميّز، كفتحهم النوعي المجيد، فأمضى الليل والمسلمين بالابتهال لله والدعاء والقيام، وكان عمر رضي الله عنه إذا اعتدل من سجوده، رأوه يبكي، قالوا له يا أمير المؤمنين أتبكي ساعة النصر؟ ! قال نعم ذكرت حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم بما معناه : { لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تقبل عليكم الدنيا، كما أقبلت على من كان قبلكم فتنافسوا كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم.}
ولم تزل مفاتيح كنيسة القيامة حتى اليوم بأيدي إحدى الأسر المسلمة العريقة، التي سلمها إياها المسيحيون من سكان إيلياء، حين تسلم الفاروق للقدس، ثقة منهم بالفاتحين الأبرار من المسلمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق