الصفحات

الأربعاء، 28 مايو 2014

الخبر المغرور

الخـبر المغـرور


ها قد حلَّ فصل الربيع، والأرضُ قد لبست بساطًا أخضرَ يسرُّ الناظرين، وكانت الشمس مشرقةً، والسماء صافية، والعصافير تُزَقزق، وها هي الطُّيور تَفِد من أقاصي البلاد، محلِّقةً في السماء، مكوِّنة أشكالاً هندسيَّة رائعة، وها هو الراعي ومِن حوله غُنَيماته وعَنْزاته، ترعى...

وبينما كان "المبتدأ" يتجوَّل رفقةَ صديقه "الخبر" في بَساتينَ وحدائِقَ غَنَّاء، ومزارع واسعةٍ حيث كانا يتبادلانِ أطراف الحديث الشَّائق، فجأةً توقَّف "الخبر"، ونظر إلى السماء، واستغرق نظره طويلاً، وحدَّثته نفسُه أنه يَمْلِك القوة والرِّفعة والعلو.

نظر "المبتدأ" إلى "الخبر"، وقال: ما بك يا خبَر؟ هل أصابك شيء لا قدَّر الله؟

"الخبر": ألا تدري أنَّني صاحبُ شأنٍ عظيم، وهِمَّة كبيرة، ومقامي رفيع؟!

ثم راح "الخبَرُ" ينظر إلى السَّماء، ويشرئبُّ بعنقه كأنَّه يتطلَّع إلى أمرٍ مهم.

"المبتدأ" سائلاً "الخبر": وما ذاك الشأن والهمَّة؟

"الخبر": ها ها ها -: أأنتَ ساذج وغبِي إلى هذه الدَّرجة؟!

"المبتدأ": لقد فهمت يا خبر ما تقصده...

قاطعه "الخبر" ثم قال: يَجِب أن تفهم يا مبتدأ أنَّني أكون مرفوعًا دائمًا، سواء كنت مفردًا أو جملة اسميَّة، أو جملة فعليَّة، أو شبه جملة، ولك هذه الأمثلة؛ لِتَفهم أكثر يا صديقي المغفَّل:

"الشَّمس مشرقة": خبَرٌ مرفوع.

"العصافير تزقزق": الخبر جملةٌ فعليَّة في محلِّ رفع.

"العصفور فوق الشجرة": الخبر شبه جملة في محلِّ رفع.

وراح "الخبر" يضحك، ويَسخر من "المبتدأ".

"المبتدأ": لا تغترَّ كثيرًا بنفسك، احمد الله على نِعَمِه وفضله أنْ جعلك مرفوعَ الرأس في كلِّ الأحوال، ولكن لِتَعلمْ يا خبر أنَّ النِّعمة تزول إذا لم تَشكُرها.

"الخبر" ضاحكًا: لن يستطيع أحدٌ أن يزيل هذه النِّعمة، وهذا الفضل، وسأبقى مرفوعَ الرأس، ولن ينخفض أبدًا، أفهمتَ يا هذا؟

"المبتدأ": ألَم تسمع بـ"كان" وأخواتِها؟

"الخبر" في استهزاء وسخرية: لا علم لي مَن تكون "كان" وأخواتها؟ ها ها ها!

"المبتدأ": إنَّ لها شأنًا عظيمًا، وفضلاً كبيرًا عليك، وتستطيع أن تغيِّر وظيفتك الإعرابيَّة.

"الخبر": ألَم أقل لك: إنك لا تفكِّر، وأنك ساذج، ليس لأحدٍ فضلٌ عليَّ.

وراح "الخبر" يسخر كعادته رافعًا رأسه، حتَّى كاد أن يسقط، وفجأةً توقَّف..

"المبتدأ": ما لك؟ ما أصابَك؟

كاد "الخبر" يسقط أرضًا، وكان العرَقُ يتصبَّب، لقد اصفرَّ وجهه، وارتعدَتْ فرائصه، كاد أن يُغشَى عليه، وبدأ يصرخ:
- يا للهول، يا للمصيبة! أنقِذْني يا مبتدأ أنقذني.

"المبتدأ": ما بك يا خبر؟ هل بك وجَع؟ سأحملك حالاً إلى الطبيب!

"الخبر" ما زال يصرخ، كان منظره يُثير الضحك والسُّخرية، ويدعو إلى الشفقة، لقد خارَتْ قُواه، لقد فقد توازُنَه.

"المبتدأ" لَم يصدِّق ما حدث للخبر، وراح يقول له: لا بأس عليك، لا بأس عليك، تَمالَكْ يا أخي تمالَك.

"الخبر": لا تتركني يا مبتدأ، دافِعْ عنِّي، لا تجعلني أضحوكة أمام...

لَم يستطع "الخبَرُ" أن يُتِمَّ حديثه.

وفي هذه اللَّحظات الحَرِجة والصَّعبة، ظهرَتْ "كان" وأخواتها، والغضبُ بادٍ عليهنَّ.

"كان": أنعمت مساءً يا مبتدأ.

"المبتدأ": أنعمتي مساء يا سيدتي كان، ومرحبًا بأخواتك الفُضْليات.

"كان": أنت دائمًا لطيف ومؤدَّب.

ثم تقدَّمت كان، وأخواتُها: (أصبح، ظلَّ، أمسى، بات، ما زال...) من الخبر.

كان "الخبَرُ" في حالةٍ سيِّئة للغاية؛ كيف سيُواجه هذا الموقف الصعب؟ ماذا سيقول لـ"كان" وأخواتها؟

"كان" تقترب أكثر من "الخبر" قائلةً له:
- لقد سمعت كلَّ ما دار بينك وبين المبتدأ، لقد أصابكَ الغرور وأنت تزهو بنفسك، وتسخر منَّا جميعًا، ألَم تعلم وظيفتي الإعرابيَّة؟

أراد "الخبَرُ" أن يبرِّر ما صدرَ منه، لكن "كان" لَم تمنح لهفرصةً للحديث، ثم قالت له:
- أنت من اليوم ستكون منصوبًا بالفتحة؛ سواء كنتَ مفرَدًا أو جملة فعليَّة، أو اسمية، أو شبْهَ جملة، وتكون مجرورًا بالكسرة نيابةً عن الفَتْحة، إذا كنتَ جمع مؤنثٍ سالِمًا؛ نحو: كانت المعلماتُ مجتمعاتٍ، أمَّا أنت يا مبتدأ فستكون اسمًا لنا، وتبقى مرفوعَ الرَّأس، ولك شأن ورِفْعة، وهِمَّة وعُلو.

"المبتدأ" في استحياءٍ: جزاكِ الله خيرًا يا سيِّدتي كان.

شعر "الخبَر" بالخزي والنَّدامة، وقرَّر أن يستقيم، وأن يسلك طريق الصَّالحين، وألا يغترَّ بنفسه، وأن يشكر النِّعمة؛ حتَّى لا تزول.

(انتهت القصة).